الجيش المغربي في القرن التاسع عشر |
يتعلق هذا البحث(1) «بالجيش المغربي» في القرن التاسع عشر، وذلك ما بين سنتي 1830 و1912م، أي في فترة زمنية تبتدئ بالغزو الفرنسي للقطر «الجزائري» وتنتهي بفرض معاهدة الحماية على «المغرب»، في شهر مارس من سنة 1912م. وهذا يعني أن تناولنا للموضوع سوف ينصب على فترة تاريخية أرغم «المغرب» خلالها على مواجهة مباشرة ومستمرة مع الجار الجديد، في جناحه الشرقي من جهة، ومع باقي القوى الاستعمارية الأروبية، المعززة بمكتسبات الثورة الفلاحية، والصناعية، والتقنية، والثقافية من جهة أخرى.
ومعلوم أن قوة الدول وقتئذ كانت تقاس بقوة جنودها وعساكرها، وفاعلية عتادها الحربي. والحقيقة أن «المغرب» شأنه في ذلك شأن البلدان التي تتسم بنياتها الاقتصادية والاجتماعية بسمات بلاد «ما قبل الرأسمالية»، لم يستطع إلى هذا التاريخ تحقيق ثورة فلاحية وصناعية، بل لم يتوصل إلى تحقيق حتى تحولات بسيطة في مجال التسيير، والعيش، والاكتساب، ناهيك عن مجال الإبداع والابتكار. ومهما يكن الأمر فإن حديثنا لن يهتم في المقام الأول بطبيعة وميادين الصراع والتعامل بين المغرب والدول الأروبية، بقدر ما سيحاول إماطة اللثام وإجلاء الغموض الذي ظل يكتنف جوانب عديدة من جهاز الجيش، خلال هذه الفترة العصيبة من تاريخنا الوطني.
وقد شجعنا على المضي قدما في هذا السبيل، البحث الذي كنا أنجزناه حول «النخبة المخزنية في مغرب القرن التاسع عشر»، ولذلك قد يكون البحث الحالي، بمثابة تدقيق، وتفصيل وتصحيح لما كنا توصلنا إليه آنذاك من نتائج بكيفية مختصرة، في شأن مؤسسة الجيش وشؤونها في سياق ترابطها مع باقي فئات وأجهزة التشكيلة الاجتماعية في مغرب القرن المذكور.
ومن ثمة تولدت لدينا قناعة قوية، بأن هذا الموضوع جدير بالبحث والتنقيب، ومن شأنه أن يمهد السبيل للتساؤل مثلا عن دور الجيش بصفة عامة، في عملية تحديث دواليب وأجهزة الدولة والبنيات الاجتماعية، وهل تسنى له فعلا أن يضطلع بهذا الدور الخطير، أم لم يحدث ذلك في الفترة المذكورة؟ وبتعبير آخر، هل كان من الممكن تسخير وتوظيف الجيش المغربي ورجاله، ليصبح أداة تطور المجتمع وبنياته، أم العكس هو الذي حصل؟ وفي هذا السياق نذكر هنا ما خلص إليه الباحث الأمريكي «رالستون (د.ب)» (David. B Ralston) في كتابه: «الاقتداء بالجيش الأروبي: إدخال التقنيات والتنظيمات العسكرية الأروبية إلى البلاد الغير أروبية، Importing the European Army the Introduction of : the European and Inditution Into the Extra – European Contries (منشورات جامعة شيكاكو، 1990)، حيث يقول إن أمر كل مجتمع رهين قبل كل شيء بتحديث وتطوير مؤسسته العسكرية. وقد اعتمد هذا الباحث في توصله إلى هذا الاستنتاج تجربة مسار خمس دول تنتمي إلى فضاءات حضارية متنوعة، وهي «روسيا، واليابان، والصين، ومصر، وتركيا». من جهة أخرى يتبين جليا على ضوء ما أنجز حتى الآن من دراسات وأبحاث جامعية، حول «الجيش المغربي» في الفترة موضوع دراستنا هذه، سواء تلكم التي أنجزت داخل المغرب أو خارجه، أن عددا من الجوانب والإشكاليات، لم يدرس بعد بما فيه الكفاية، توضيحا وتدقيقا. ولهذا، حاولنا من جهتنا أن نعمق البحث والتنقيب في بعض تلك الإشكالات والجوانب كمسألة إعداد الجند والعسكر، على امتداد الفترة الزمنية المختارة، والخسائر البشرية في ميادين القتال، والأصول الاجتماعية والجغرافية لأفراد الجيش، وعلاقة هذا الأخير بالدولة والمجتمع، كما حاولنا التدقيق في مسألة تموين الجيش، سواء تعلق الأمر بالعسكر النظامي، أو بأفراد الجيش، أو بحراك القبائل، وبالتالي حاولنا الكشف عن إسهامات القبائل في تموين «الحركات السلطانية»، والبعثات العسكرية المخزنية. وارتأينا كذلك إثبات خرائط ورسوم لعدد من محاور ومسارات بعض الحركات، في جهات مختلفة من البلاد علنا نوفق بمساهمتنا في بلورة أجوبة مقنعة لتفسير أسباب ودوافع المخزن في اختيار بعض المسالك والمحاور الطرقية دون غيرها.
ومعلوم كذلك أن الحوليات الإخبارية التقليدية لا تقدم لنا مادة تاريخية تشفي الغليل، سيما وأن أصحابها، كانوا لا يعيرون أدنى اهتمام للجيش وشؤونه، حتى إن فعلوا، لم تستأثر باهتمامهم إلا الوقائع الحربية التي تكون فيها الغلبة المخزنية، ويمرون مر الكرام أو يسكتون تماما على غيرها من الوقائع، ويرمون عناصر الجند والعسكر بأقبح النعوت، ويحملونهم دوما مسؤولية هزائم المحلات السلطانية، بسبب عدم انضباطهم، وقبيح سلوكهم وتصرفهم المشين في ميادين المعركة. وأما التفاصيل عن عدد المقاتلين، وأنواع سلاحهم وظروف عيشهم ومعاناتهم في الظعن والترحال، فلا ذكر لها إلا نادرا، اللهم إذا استثنينا مؤرخ مكناس، عبد الرحمن بن زيدان الذي يورد وثائق مخزنية ومعطيات كمية عن الجيش وفرقه، في ثنايا مؤلفيه:
* إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس.
* والعز والصولة في معالم نظم الدولة.
وأما الأبحاث والدراسات الجامعية الحديثة المنجزة حتى الآن في الموضوع، فإنها تكاد تعد على رؤوس الأصابع، سواء منها ما أنجز داخل المغرب أو خارجه، فقد انصبت في معظمها على جوانب «الإصلاح» في القرن التاسع عشر، أو اهتمت بظاهرة «الحركة» ودلالتها، وبالخصوص في عهد السلطان المولى الحســــــــــــــن (1290 – 1311 / 1873 – 1894).
وهذا ما ذهب إليه الباحث الأمريكي «و. ج. رولمان» (Wilfrid – John Rollman) في أطروحته: «النظام الجديد»
في مجتمع إسلامي ما قبل الاستعمار، الإصلاح العسكري في المغرب (1844-1904)، حيث عمل على وضع إشكالية الإصلاح بصفة عامة في سياقاتها التاريخية المتتالية، بدءا من القرن السادس عشر، في كل من ديار أروبا الغريبة من جهة، وفي تركيا وبلاد الكنانة على الخصوص بالنسبة للأقطار العربية والإسلامية المطلة على حوضي البحر المتوسط الشرقي والغربي من جهة أخرى لينصرف في الأخير إلى الحديث عن الإصلاح العسكري في المغرب دونما تعمق في الموضوع.
وتمثل الرسالة التي ناقشتها الأستاذة «ثريا برادة» سنة 1984، في رحاب كلية الآداب بالرباط في موضوع:
الجيش المغربي وتطوره في القرن التاسع عشر، مساهمة في دراسة «الإصلاحات العسكرية»، نموذجا آخر من الأبحاث الجامعية المنجزة حول مؤسسة الجيش، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. وقد ركزت الباحثة على جانب الإصلاح، واستخرجت مادة موضوعات بحثها من الوثائق المغربية ذات الصلة بالموضوع، وهو الأمر الذي أتاح لها مثلا فرصة التأكد ومناقشة لفظة إصلاح بصفة عامة للحديث عن الترتيبات والإجراءات التي ارتأى المخزن اتخاذها، في الفترة الزمنية موضوع بحثها بهدف تطوير وتحسين قدرة الجيش المغربي القتالية، إلى غير هذا من الموضوعات والقضايا، تمحورت بعضها مثلا حول الموروث السياسي، والثقافي، والاجتماعي عن الحقب السالفة، وعن واقع الجيش المغربي في مطلع القرن التاسع عشر. بقيت جوانب من الموضوع لا تقل أهمية عن مسألة الإصلاح، كالتركيبة الاجتماعية لمختلف تنظيمات الكيش والعسكر وما إلى ذلك وكذلك فعلت السيدة «سيمو» في رسالتها التي ناقشتها سنة 1987 بجامعة السربون – باريز الرابعة لنيل شهادة دكتوراه السلك الثالث في التاريخ المعاصر بعنوان: الإصلاح بالمغرب: الإصلاحات العسكرية ما بين 1844 و 1912، حيث اهتمت بالحركات الإصلاحية الدينية والفكرية التي عرفها العالم العربي والإسلامي في العصور الحديثة وحتى العقود الأولى من القرن التاسع عشر، لتتعرض بعد ذلك إلى الإصلاح العسكري بالمغرب خلال الفترة الزمنية المحددة، واعتمدت هذه الدراسة أكثر ما اعتمدت مصادر أوربية، مع عدد قليل نسبيا من الوثائق والمصادر المغربية. لذلك حاولنا في عملنا هذا أن نعمق البحث والتنقيب في موضوع الجيش المغربي في القرن التاسع عشر وأن نعيد النظر في مختلف جوانبه، علنا نوفق في تفادي الثغرات التي ظلت تشوب هذا الموضوع معتمدين أساسا على الوثائق المخزنية.
لقد حرصنا في المنهج الذي اتبعناه في البحث على قراءة كل ما طالت إليه اليد من وثائق، ومصادر، ومراجع، عربية كانت أو أجنبية، مما له صلة بالموضوع، أو تلك التي توخينا من استغلالها مدنا بعناصر قمينة بتكميل أو توضيح أو تصحيح ما استخرجناه منها. ثم بعد ذلك عملنا على استخراج وترتيب المعطيات والمعلومات التي رأيناها جديرة بالاهتمام، ومفيدة بالنسبة لبحثنا. وهذا يعني أننا اعتمدنا منهجا استقرائيا، وصفيا وتحليليا في نفس الوقت، في معالجتنا للموضوع. وكلما سمح الحصيد بذلك، خلصنا إلى تقديم استنتاجات نرجو أن نكون قد وفقنا في استنباطها وصياغتها:
على أننا مقتنعون كل الاقتناع وواعون كامل الوعي بأن بعض هذه الخلاصات لن يكون إلا مؤقتا، في انتظار تزكيتها أو دحضها وتفنيدها من قبل أبحاث ودراسات مقبلة تعنى بمادة موضوعنا.
ومهما يكن الأمر، فإن مستلزمات ومتطلبات البحث العلمي الرصين تفرض علينا أن لا نتعسف في نظرتنا للأحداث والوقائع، ونبخس الأطراف المساهمة في صنعها وبلورتها حقها ونصيبها. فغايتنا هي الاهتداء إلى إبراز واقع الجيش المغربي في القرن التاسع عشر، ورسم معالم تطوره، وتوضيح مكانته ودوره في الدولة والمجتمع، وتبيان ظروف عيش وعمل أفراده، وغير ذلك من الإشكاليات والقضايا، مما سنجتهد لنلتمسه أثناء تناولنا للموضوع.
ونحن إذ نسلك هذا المنهج عن قصد، فإننا واعون ومدركون أهمية وفاعلية النظريات والأدوات التي يضعها ويصوغها الباحث في «علم الاجتماع»، أو المشتغل في حقل «الأنطروبولوجيا»، أو «الاتنوغرافيا»، ويقدمها للمهتم بالتاريخ الاجتماعي على الخصوص والذي يستعين بها بدوره للحديث عن وقائع وأحداث اندرست معالمها، وسكنت أصواتها منذ مدة.
وأما تصميم البحث، فقد اقترحنا له ثلاثة أبواب كبرى، وزعت داخلها سبعة فصول، ثلاثة منها في الباب الأول، والأربعة الباقية وزعت بالتساوي على البابين الثاني والثالث.
وخصص الباب الأول، وهو تحت عنوان: «الجيش، المؤسسة والتنظيم» للحديث في فصل أول عن: «السياق الداخلي والخارجي»، وفي فصل ثان عن: «تركيب الجيش وتنظيمه»، وفي فصل ثالث عن: «التسيير والتأطير». واندرج الباب الثاني من البحث تحت عنوان: «وظائف الجيش ومنجزاته» استعرضنا في الفصل الأول منه مسألة: «الأعمال والخدمات»، وفي الفصل الثاني، تعرضنا لقضية: «الحركة، ضوابطها»، وأفردنا الباب الثالث، وهو تحت عنوان: «تحديث الجيش، الوسائل والنتائج»، لمعالجة مسألة: «الحاجة إلى التحديث، والعون الأجنبي ومشاكله»، في الفصل الأول منه، وجانب «مجهودات الدولة» في الفصل الثاني والأخير.
هذا علاوة على مقدمة ألمحنا فيها إلى «دوافع اختيار الموضوع»، «والمصادر والمراجع»، و«المنهج المتبع في معالجة الموضوع» و«تصميم البحث»، وعلى خاتمة ذيلنا بها بحثنا هذا ضمناها أهم الخلاصات والنتائج التي توصلنا إليها، آملين أن نكون قد وفقنا في محاولتنا هذه الإسهام في التعريف بمؤسسة الجيش المغربي في القرن التاسع عشر، وفتح آفاق جديدة للبحث والتنقيب في ورش الدراسات العسكرية والحربية. ولابد من الإشارة هنا إلى أن عناصر، ومحتويات هذا التصميم الذي تبنيناه قد فرضت نفسها علينا، إن جاز هذا التعبير. ومرد ذلك طبعا إلى حصيلة ما جنيناه وقطفناه من معلومات ومعطيات من الوثائق والمصادر المغربية من جهة، ومن الأرشيف الأجنبي من جهة ثانية. على أن القراءات العديدة والمتنوعة التي قمنا بها لمختلف المصادر والمراجع، عربية كانت أو أجنبية، ساعدتنا على وضع هذا المخطط، إطارا عاما للبحث. وهذا يعني أننا تفادينا الانطلاق من تصور مسبق وخلفيات وأفكار محبوكة لوضع تصور عام للموضوع، يطعم ويبلور مما يتجمع لدينا من معلومات حوله، بل كان دائما الانطلاق من الوثائق، للاستجلاء والكشف عن واقع النسيج العسكري المغربي، وتفاعله وارتباطه بالفئات الاجتماعية الأخرى، متسائلين مثلا إلى أي حد استجابت مؤسسة الجيش، وقامت بما كان ينتظره منها المخزن من أعمال ووظائف.
لقد حاولنا، من خلال دراستنا هذه لموضوع الجيش المغربي في القرن التاسع عشر، استغلال عدد وافر من الوثائق المخزنية. وقد سمح لنا استنطاقها بالتركيز على بعض الجوانب والقضايا دون غيرها، آملين أن تساعد على فهم وتلمس أفضلين لخصوصيات مؤسسة الجيش ومكانتها في الجهاز المخزني وقتئذ.
وهكذا، عملنا على استجلاء بعض ملامح الدولة المغربية، بغية وضع المؤسسة المذكورة في إطارها السياسي والاجتماعي والتنظيمي على ضوء المستجدات التي عرفها على المستوى الداخلي من جهة، والتطورات التي كانت تميز تعامله مع الدول الأروبية من جهة أخرى. وقد تساءلنا في هذا الإطار عن خصائص بنية الجيش المغربي البشرية، وعن أساليب وأوجه تكوين وتدريب عناصره على تقنيات وطرق الحرب والقتال الحديثة، وإلى أي حد كان هؤلاء يؤدون مأموريتهم، ويساهمون بالتالي في شد أزر الدولة ومساعدتها على تدبير وتسيير شؤون البلاد، والدفاع عن حوزتها كلما دعت الضرورة إلى ذلك، مبرزين في نفس الآن الدور الأساسي «لقبائل الكَيش» و«عبيد البخاري»، باعتبارهما قوتين منظمتين وهامتين، ولا سيما في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ كان بإمكان المخزن التعويل عليهما في كل وقت وحين. وحاولنا أيضا تتبع سياسة المخزن في هذا المجال، وإعطاء فكرة عن أعداد هذين التنظيمين وتطورهما على امتداد القرن التاسع عشر، كما قمنا بنفس العملية بالنسبة لحراك القبائل وعساكرها، وجند النظام.
ومن الخلاصات التي سمح لنا استقراء الوثائق بالتوصل إليها، أن إعداد تنظيم عبيد البخاري وقبائل الجيش، كانت تتراجع باستمرار، على امتداد القرن التاسع عشر، لأسباب سياسية ومالية وتنظيمية، ولاسيما بعد الشروع في تأسيس النواة الأولى لعسكر النظام، غداة وقعة إيسلي سنة 1844، وإسناد مهام تكوين عناصرها، أول الأمر إلى ثلة من الضباط والعسكريين المغاربيين والمشارقة، ثم في مرحلة لاحقة إلى مكونين وعسكريين إنجليزيين وفرنسيين على الخصوص. وقد تبين لنا هذا كله من الأرقام والبيانات التي أثبتناها في جداول مفصلة، أشفعناها بأخرى عن الرواتب والأجور.
وفيما يتعلق بحراك القبائل الذين كان يجندهم المخزن، ويزج بهم في ميادين القتال، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، فقد أدلينا في شأنهم أيضا بأرقام مفصلة وبيانات متنوعة عن أعدادهم، وانتسابهم القبلي، وطريقة ومقاييس اختيارهم وتعيينهم، وهو الأمر الذي حملنا على الاعتقاد بأننا نساهم في التعريف بظاهرة الحركة وأدق جزئياتها وتفاصيلها البشرية والتنظيمية والمادية.
وأمكننا أيضا استجلاء التحول الهام الذي أخذ يطرأ على تركيبة الجيش، ولاسيما غداة «حرب تطوان»، حيث أضحت أعداد الرماة والطبجين أي المدفعيين في إزدياد مستمر، في حين أخذت أعداد الخيالة في التراجع. إلا أن هذه الظاهرة لا تعني البتة أن مفهوم وتصور المسؤولين العسكريين المغاربة، وفي مقدمتهم السلطان طبعا، للعملية الحربية برمتها قد تغير عما كان عليه الأمر أيام العرب ومن شابههم من الأمم والشعوب، أي أن طريقة المغاربة الحربية ظلت تعتمد على تاكتيك الكر والفر، وبالتالي ترجيح كفة سلاح الفروسية على باقي التنظيمات العسكرية الأخرى.
وتعرضنا أيضا في مرحلة موالية إلى مسألة السلاح الناري والذخيرة اللذين كان المخزن يزود بها مقاتليه من الجيش والعسكر، فتبين لنا من مصادرنا أن معظم أنواع البنادق والمهاريس، والمدافع على الخصوص، كان يرجع تاريخ صنعها دوما إلى عدة سنين خلت، وتوجد في حالة سيئة ورديئة بسبب قلة العناية والاهتمام، وانعدام أعمال الصيانة، وهذا ما كان يجعلها عديمة الفائدة، إذا قورنت بنظيرتها التي كانت بيد عناصر الجيوش الأروبية. وسواء تعلق الأمر بالبنادق والذخيرة التي كان يتم صنعها في معامل الدولة هنا وهناك، وبالخصوص في معامل «تطوان»، و«العرائش»، و«فاس»، أو بالتي كان يتم صنعها في إطار عائلي وعشيري، فإن وسائل الإنتاج المستعملة، والأساليب المعتمدة، كانت بدائية وتقليدية لا ترقى البتة إلى المقارنة بما كان عليه الأمر في مصانع السلاح الحديثة بأوربا. وأما العتاد الحربي المستورد من الخارج، أي من إنكلترا، وبلجيكا، وإيطاليا، وفرنسا على الخصوص، فكان لا يخرج عن أحد أمرين، فإما أن تكون معظم قطعه عائبة وغير متقنة الصنع، وإما أن تكون من النوع القديم الذي أصبح في وقت تفويته إلى المغرب متجاوزا تقنيا وعسكريا، وثم الاستغناء عنه في التنظيمات العسكرية الأوربية. وهكذا تنضاف سلبيات وعوائق العتاد الحربي العائب والمتقادم إلى قلة استعداد المحاربين المغاربة، وجهلهم بأساليب ومناهج القتال الحديثة. وانصب على أطر الجيش، فعملنا على التعريف بعدد وافر منهم، وتبين لنا أنهم كانوا لا يتوفرون على أدنى رصيد من التكوين العسكري والحربي، وبالتالي جهلهم التام بفنون ومناهج الحرب العصرية، وبما كان يجري حولهم من أحداث ووقائع. لقد كانوا صورة حية لما كانت تمثله هذه المرحلة، موضوع دراستنا، من تطور اجتماعي، وثقافي، وتقني بالنسبة للمجتمع المغربي وقتئذ. على أن هذا لا يعني بالطبع التنقيص من شجاعتهم وإقدامهم، أو إنكار ما كان لبعضهم من دراية ومهارة في ميادين القتال، وفي تسيير وقيادة الرجال، وإنما قصدنا هنا الإلحاح على أن هؤلاء القواد لا معرفة لهم بمناهج وطرق الحرب العصرية، كما كان يتلقاها نظراؤهم في المدارس والمعاهد الحربية الأوربية، إذا كانوا يحاربون، ويذهبون إلى ميادين القتال، وكل ما يتوفرون عليه من خبرة ومعرفة بالحرب وشؤونها، يتلخص فيما قد اكتسبوه انطلاقا من تجاربهم في المعارك التي كانت تخوضها قبائلهم.
وأما ما كان يقدمه المخزن من أجور ومؤن إلى هؤلاء القواد ورجالهم، كَيشا كانوا أم عسكرا، فإنها كانت جد زهيدة لا تفي بالغرض، ولا تكفي البتة لسد حاجيات الفرد الضرورية، فما بالك إذا كان عليه إعالة أسرة من زوج وثلاثة إلى أربعة أبناء على الأقل، ومن ثمة كان اضطرار معظمهم إلى مزاولة عمل آخر، في أوقات الفراغ من الخدمة في الجندية، كأجراء أو حرفيين أو باعة متجولين، سعيا إلى اكتساب بعض الأواقي، عساها أن تساعد على مواجهة تكاليف العيش وشظفه.
على أن من كان بيده مال كثير، ولا يتأتى ذلك طبعا إلا لثلة من الكبراء، كانوا يتحولون إلى تجار مرابين حقيقيين، يستثمرون أموالهم في عمليات تجارية كانت تتخذ من المحلة نفسها سوقا كبيرا ومتنقلا، فيحصل عموم الجند على بعض المواد بالنسيئة ريثما يتوصلون برواتبهم ومؤنهم، متخذين بذلك من المجال الجغرافي المتنوع والفسيح الذي كانت تتحرك فيه المحلة السلطانية أسواق مربحة.
ثم تعرضنا بعد ذلك إلى لباس الجند، فلاحظنا شيئا من التشابه بينه وبين ما كان يرتديه باقي سكان البلاد، ولا سيما في النصف الأول من القرن التاسع عشر. بيد أنه واعتبارا من بداية عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن، صار المخزن يقتبس قطعا من الزي العسكري التركي والأوربي، مدمجا إياها في كسوة عناصر جيش النظام على الخصوص، في حين ظل معظم أفراد الجيش والعسكر، وحراك القبائل طبعا، يرتدون اللباس التقليدي المغربي الفضفاض الذي كان يعيق حرية الحركة دون شك، ولربما يليق ويواتي هواة ألعاب الفروسية أكثر مما كان يصلح ويناسب من كانت خدمتهم بالأساس، تتخلص في الفر والكر، وفي تسلق الجبال واقتحام الأوعار، وفي عبور الأودية والأنهار، وفي حمل الأثقال وتمهيد السبل والمسالك، في الأيام القائضة، كما في الليالي الظلماء العاصفة. واغتناما للفرصة أيضا للحديث عن أنواع الثياب والمنسوجات التي كان يستعملها في إكساء جنوده وقواده، وعلى يد من كانت تنجز هذه العملية، وما هي أهم المراكز الحضرية التي يتم بها صنع البذل، والنعال، والعمائم؟ ويمكن إسقاط نفس الملاحظة على قطاع السكن وإسكان أفراد الجيش، إذا لم يكن يوجد بالمغرب وقتئذ ثكنات أو محلات جماعية، مبنية مساكنها من الحجارة والطين، تأوي هؤلاء الناس، في حالة الإقامة أو الترحال، فالوسيلة الوحيدة المستعملة لإيقائهم من حر الشمس، و برودة الطقس وتهاطل الأمطار هي أنواع من الأخبية والخيام المختلفة الأشكال والأحجام التي كانت تصنع في كبريات المراسي والحواضر. على أن المخزن كان يعمل على توفير سكن قار إلى ثلة من كبار قواد ورؤساء الجيش، إما عن طريق التمليك أو الإيجاز، كلما حطت المحلة الرحال بإحدى العواصم الثلاث، فاس، ومكناس، ومراكش على الخصوص. وقد أمكننا، في هذا الصدد، تقديم معلومات ومواصفات دقيقة عن سعة وحجم نماذج من الدور التي كان يخصصها المخزن لمساعديه العسكريين، أو ينعم عليهم بها. ثم عززنا ذلك ببيانات ومعطيات كمية حول أثمنة كراء أنواع شتى من الدور والمباني في جهات مختلفة من البلاد، وفي تواريخ تغطي تقريبا القرن التاسع عشر بأكمله، بهدف إعطاء فكرة عما كان يمثله الإنفاق على سكنى الفرد وأسرته من عبء على القدرة الشرائية لمغاربة الفترة المذكورة، وفي مقدمتهم قواد ورؤساء الجيش. وانسجاما مع سياسته في التعامل مع عناصر الجيش والعسكر، ومن أجل ضمان ولائهم ووفائهم للدولة، وتمييزهم عن عموم السكان دأب المخزن على تمتيعهم بعدد من الامتيازات والإنعامات، كإقطاع كبرائهم مثل أراضي فلاحية هنا وهناك، مع تخويلهم حق الانتفاع من أنصبة من مياه السقي، وإعفاء الجميع من أداء الضرائب غير الشرعية، ومن الكلف والوظائف، ومنحهم صلات وإنعامات في مناسبات معينة كالأعياد مثلا.
وتعرضنا أيضا إلى مسألة تطبيب وعلاج مرضى وجرحى أفراد الجيش، وخلصنا إلى القول بأنه لا شيء يذكر في هذا المجال، وبأن ظروف عيشهم وعملهم كانت تساعد كثيرا على تفشي مختلف الأمراض والأعراض في صفوفهم أكثر مما يحدث في صفوف الفئات الاجتماعية الأخرى، وبالخصوص حين كانت تجتاح البلاد القحوط والمجاعات، وما كان يعقبها من ويلات ومصائب الأوبئة والطواعين، «كالكوليرا» و«التيفوئيد» مثلا.
وكان ينضاف إلى الآثار السلبية والسيئة للجوائح الطبيعية والأمراض المعدية، ضروب وأصناف التعسفات والمضايقات والابتزازات التي كانت تستهدفهم على يد قوادهم ورؤسائهم، وكذلك على يد الولاة والحكام الآخرين.
واستأثر باهتمامنا أيضا موضوع سلوك أفراد الجيش، قوادا وأنفارا، سواء تعلق الأمر بما كان يتخلل علاقاتهم اليومية وظروف عملهم من مشاكل وصراعات، في معسكراتهم ومخيماتهم، ساعة التوقف والاستقرار، أو وقت الطعن والترحال، أو بما كان يصدر عن بعضهم من أقوال في تعاملهم مع غيرهم من مكونات المجتمع المدني، وبالخصوص سكان البوادي، وهو الأمر الذي أتاح لنا فرصة استبيان وتلمس مستواهم الثقافي والفكري، وكذلك بؤس أوضاعهم المادية والمعيشية، والتي تفسر جوانب عديدة من ممارساتهم وتصرفاتهم، الأمر الذي كان يدفع ببعضهم، بين الفينة والأخرى، إلى الهروب من أماكن خدمتهم، أو من الحركة ومعهم، في غالب الأوقات، اللوازم الحربية التي يكون قد أمدهم بها المخزن أو قبائلهم.
وأولينا الاهتمام أيضا لظاهرة الانتفاضات والتمردات في مغرب القرن التاسع عشر، متسائلين عن الأسباب والدوافع المختلفة التي ساهمت في إيقاد نيرانها، وتأجيج لهيبها، ونشر فتيلها، حيث ركزنا على انتفاض قبيلة الرحامنة التي اهتز لها حوز مدينة مراكش بأكمله، في بداية عهد السلطان المولى عبد العزيز، وتوسعنا بعض الشيء في الإحاطة بجميع جوانبها وخلفياتها، بهدف إعطاء فكرة عن الدور الهام الذي كان يضطلع به عناصر الجيش في استتباب الأمن وقمع حركات العصيان ضد المخزن، دون إغفال أن تردي الأوضاع المادية والاجتماعية لفئات عريضة من المجتمع المغربي، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الخصوص، وتدني مستوى عيشها بسبب تمكن اقتصاد السوق وغزو المنتوجات الأوروبية للأسواق المغربية، ودسائس الدول الاستعمارية، كلها عوامل ساهمت في تأجيج غضب السكان وجعلهم أكثر تقبلا وتحمسا لدعاية وأكاذيب مشعوذين ومغامرين من أمثال «الجيلالي بن عبد السلام الزرهوني»، أو «أحمد الريسوني».
وعندما تناولنا لمسألة خطط المخزن الدفاعية المتمثلة أساسا في سلسلة الأبراج والحصون التي كانت تتخلل الواجهة الأطلسية من البلاد على الخصوص، وفي القصبات والإدالات المنبتة في ربوعها، ناقشنا مصطلح «الجهاد» الذي ظل حاضرا باستمرار في الكتابات المخزنية وغيرها على امتداد الفترة موضوع بحثنا هذا، فتبين لنا أن لفظة «جهاد» قد استعملت في معنى الدفاع عن حوزة الوطن، وليس في معنى حمل الآخر عن طريق الترغيب أو الترهيب، على الإذعان إلى الكلمة الحق واتباع سبيل الهداية والرشاد، وهو الأمر الذي كان يقضي الدخول معه في مجاهدة ومكابدة، وفي حرب ومواجهة خارج الوطن بعيدا عن الأهل والولد.
وأما فيما يخص القصبات والإداءلات والقلاع المنتشرة في الجهات المختلفة من البلاد، في الجبال والوديان، وكذلك على امتداد المسالك الكبرى التي كانت تمثل الممر الطبيعي والضروري للقوافل التجارية، وللسابلة، ولكتائب وتجريدات الجيش، فقد عملنا على التعريف بخصوصياتها، وبأعداد رجالها وما كانوا يتقاضونه من مؤن ورواتب، وكذا بعلاقاتهم بالقبائل المجاورة لهم، ناهيك عما كان ينتظر منهم القيام به من طرف المخزن، والمتمثل قبل كل شيء في الحرص والسهر على استتباب الأمن، وإجراء الأحكام والأوامر المخزنية.
وحرصنا أيضا على التوسع في معالجة ظاهرة «الحركة» في مغرب القرن التاسع عشر، والتركيز على جوانب وإشكالات لم يسبق أن تعرض إليها من الباحثين من اهتم بمؤسسة الجيش المغربي في الفترة الزمنية موضوع دراستنا هذه. وهكذا عملنا على إبراز واستجلاء خصوصياتها وخلفياتها السياسية، والاجتماعية، والمادية، كما حاولنا رصد التطور الذي طرأ عليها على امتداد الفترة المذكورة، وذلك من خلال موضوعات معينة ودقيقة، كعبء الحركة مثلا على القبائل، أو فريضتي تموين الحراك، أو حمل أثقال المخزن، أو امتناع بعض الطوائف والقبائل عن المشاركة في حملة السلطان العسكرية، سواء تعلق الأمر بعهد السلطان المولى الحسن الذي اقترن اسمه بالحركة في ذاكرة المغاربة حتى مطلع القرن العشرين، أو بفترتي حكم والده السلطان سيدي محمد، وجده السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام.
هذه إذن أهم النقط والجوانب التي تعرضنا إليها في البابين الأولين من بحثنا، وهمت قضايا ومواضيع ذات الصلة بتنظيمات الجيش وفرقه، وعدد رجاله، ورواتبهم، وسلوكهم، ولباسهم، وسلاحهم، إلى غير ذلك من طرق وأساليب التنظيم والتسيير، كما انصب اهتمامنا على إبراز الخدمات والمهام التي كانت تناط بهم، وفي مقدمتها الإسها في استتباب الأمن، وقمع الانتفاضات والتمردات، وتبليغ وتنفيذ الأوامر المخزنية، ناهيك عن ظاهرة «الحركة» وأهميتها في تدبير شؤون البلاد.
وسواء تعلق الأمر بالوسائل المادية والتقنية التي كان يسخرها الجنود في أداء مهام وإنجاز أعمالهم، أو المؤهلات الثقافية والعسكرية لهؤلاء الجنود أنفسهم، فإننا ندرك أننا أمام جيش بلد تقليدي ذي بنيات اقتصادية، واجتماعية، وذهنية عتيقة. وبديهي أن تكون مردوديته وخدماته، بالمقارنة مع الجيوش الأوربية الحديثة جد محدودة، إذ أمكننا الوقوف على أمثلة عديدة في مصادرنا لنقائصه، وعيوبه ومواطن الضعف والخلل في طرق تدبير أموره وقتال رجاله.
هذا، وقد خصصنا الباب الثالث والأخير من عملنا هذا للحديث عن مجهودات سلاطين الفترة، وفي مقدمتهم السلطان المولى الحسن، والرامية إلى تحديث قطاع الجيش وتطوير أساليب عمل رجاله، حيث تعرضنا، في فقرة أولى، إلى إشكالية العون الأجنبي، وما هي الجهة الخارجية الممكن الركون إليها والتعويل عليها لإنجاح مشروع المخزن هذا، إذ كان يتعين إما الاقتداء بتجربة بعض الدول المشرقية في هذا المجال، أي تركيا ومصر، أو الاستعانة بخبرة العسكريين الأوربيين ومهارتهم الحربية.
وقبل هذا وذاك، والتساؤل عن الدوافع والأسباب السياسية والثقافية التي حملت كلا من العاهلين المولى عبد الرحمن بن هشام، وابنه وخلفه سيدي محمد، على نبذ كل تقارب وتعاون وثيق مع الدول الأوربية التي ما فتئت تتضح وتتأكد مخططاتها الاستعمارية ونواياها الحقيقية في البلاد، منذ واقعة «إيسلي» سنة 1844 وحرب «تطوان» سنة 1859- 1860 على الخصوص، أشرنا إلى الأسباب المنهجية والموضوعية التي جعلتنا نتبنى ونفضل استعمال لفظة «تحديث» عوض «إصلاح»، للحديث عن مجموعة الترتيبات والتدابير التقنية والعملية التي اتخذها المخزن، بهدف تحسين القدرة القتالية للجنود المغاربة، وظروف عيشهم وعملهم، موفرا لنفسه أداة فاعلة لتعزيز مركزه، وبسط نفوذه وكلمته وقمع كل انتفاضة أو حركة تمردية من شأنها أن تهدد سلطته وسلطة مختلف ممثليه في كافة أرجاء البلاد. إن لفظة إصلاح، في نظرنا، تختزل شحنة من المعاني والدلالات النفسية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية، لا نظن أن هذه المقدمات والمتطلبات، أو على الأقل البعض منها، كان حاضرا في أذهان النخبة الحاكمة والمثقفة أو على مستوى فئات المجتمع المغربي الأخرى.
ثم تعرضنا، بعد ذلك، إلى المحاولات والمساعي التي ظل المغرب يبذلها، على امتداد القرن التاسع عشر، بهدف إنعاش وتوطيد صلاته وعلاقاته مع إخوانه في الملة والدين، في كل من مصر وتركيا. إلا أن ظروف وأوضاع الجانبين، السياسية، والاجتماعية والمادية، والعوائق الطبيعية والتقنية، ناهيك عن دسائس، ومؤامرات، وضغوط بل تحرشات وتهديدات الدول الاستعمارية، قد حالت دون تحقيق هذه التوجهات والمشاريع التي غالبا ما كانت تقبر في مهدها. وقد تكللت فعلا مساعي كل من انكلترا وفرنسا بالنجاح، بصفتهما القوتين العظميين الأكثر اهتماما بالمغرب وشؤونه، والأشد حرصا على نسف كيانه السياسي، ومقوماته الفكرية والثقافية، وتخريب اقتصاده، تمهيدا لبسط يدهما عليه، وذلك بقبول السلطان المولى الحسن رسميا استقبال مكونين عسكريين من البلدين المذكورين. وبذلك، تكون كل من انكلترا وفرنسا قد تمكنتا من ضرب عصفورين بحجر واحد، إذ نجحتا في إقصاء الخبراء والضباط العرب والمسلمين من البلاد من جهة، وإقحام مخبرين ومراقبين في الأوساط المخزنية، بما في ذلك الحاشية المقربة للسلطان من جهة أخرى.
وأيا كان الأمر، فعلاوة على الاستعانة بالعسكريين الأوربيين في مجال تكوين وتدريب فرق من الجيش وعسكر النظام على طرق الحرب الحديثة، تعرضنا إلى البعثات الطلابية لعدد من الدول الأوربية للتعلم والتكوين في اختصاصات عسكرية وحربية، ليس فحسب على عهد السلطان المولى الحسن كما هو معلوم ومشهور، بل أيضا أيام جده المولى عبد الرحمن بن هشام ووالده سيدي محمد، على ما تضمنته وثائق مخزنية دفينة وغيرها حول هذا الجانب. وقد تساءلنا بالمناسبة، عن المقاييس والاعتبارات التي كان يرتكز عليها المخزن في اختياره لهؤلاء الطلاب الموفدين إلى الخارج، وغيرهم من أهل الصنائع والحرف، وهل كانت هناك شروط ومؤهلات وصفات معينة لكسب ورقة العضوية في الأفواج التي كانت تتوجه إلى أوربا، كالانتماء مثلا إلى فئة النخبة الحاكمة مثلا، أو الانتساب إلى قبيلة من القبائل أو جهة من الجهات، والحق أنه لا مجال البتة للاعتبارات العائلية والشخصية أو الفئوية، أو الجهوية والقبلية في اختيار هؤلاء الشبان المغاربة، إذ المهم بالنسبة للسلطان هو أن يكونوا صغيري السن ومن «أهل الذكاء، والفطنة والصحة، والجسم ...».
بيد أنه في نفس الآن، يبدو أن أهمية خاصة كانت تعطى لدرجة إلمامهم. بمبادئ القراءة والكتابة، إذا كانت تكون مقياسا من مقاييس اختيارهم، وهو الأمر الذي قد يساعد، ولاشك، على استشفاف أصولهم الاجتماعية. وكان طبيعيا أيضا، أن نتساءل عما يكون المغرب قد جناه من وراء إيفاده لمئات من أبنائه للتكوين والتعلم، واستكمال الخبرة في مدارس عسكرية ومؤسسات تقنية أروبية في إنكلترا، وإيطاليا، وبلجيكا، وألمانيا، وفرنسا، وإسبانيا، وحتى الولايات المتحدة نفسها، علما بأن ذلك قد تطلب رصد مبالغ مالية هامة، طيلة الثلاثين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر على الأقل، ناهيك عما أنفقه المخزن من أموال طائلة على تحصين وتسليح عدد من المواقع الساحلية على واجهة البلاد الأطلسية من جهة، وعلى تأسيس صناعة حربية حديثة في كل من فاس ومراكش من جهة ثانية، وعلى اقتناء العتاد الحربي والذخيرة من البلاد الأوربية من جهة ثالثة.
بيد أن كل هذه المجهودات والمحاولات قد باءت بالفشل، وذلك لأسباب مرتبطة بأوضاع المغرب الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية من جهة، وبموقف الدول الاستعمارية الأوربية السلبي من حركة التحديث والتجديد التي كانت قد دشنت غداة وقعة إيسلي سنة 1844 من جهة ثانية. وهذا ما حذا بنا إلى القول إن التدخل الأوربي وباستمرار في الشؤون المغربية، وفي صيغه وأشكاله المختلفة، ليعد بحق من المثبطات التي عاقت كل محاولة لتجديد وتطوير هياكل الدولة، اقتصادية وثقافية كانت، أم عسكرية، الأمر الذي يجعلنا نلمس إحدى الإشكالات المستعصية الحل في مغرب القرن التاسع عشر، وهي أن كل مجهود وتفكير في اتخاذ ترتيبات وتدابير للتحديث، لابد وأن يتحقق بالاعتماد على العون الأوربي، وهذا ما كان لا يطمئن إليه المغاربة قاطبة، لأسباب نفسية، وتاريخية وذهنية.
ومع هذا كله، فإننا لا نشك في أن بحثنا هذا، ربما اعتراه بعض النقص في الوصف أو التحليل، أو تجاوزت بعض فقراته حدود الاستنتاج والخلاصات، أو أغفلت أخرى.
وقد يبدو للقارئ في هذا البحث بعض المعلومات الناقصة، فهذه أمور لا يخلو منها كل مجهود واجتهاد في ميدان البحث. ولهذا والحالة هذه، لا يسعنا إلا التماس العذر لما قد يحدث من كل هذا، آملين أن تعمل أبحاث مقبلة على تقويم وتصحيح ما قد يكون في هذا البحث من خلل ونقص والله الموفق.الأمن القومي المغربي
مصطفى الشابي عن دعوة الحقومعلوم أن قوة الدول وقتئذ كانت تقاس بقوة جنودها وعساكرها، وفاعلية عتادها الحربي. والحقيقة أن «المغرب» شأنه في ذلك شأن البلدان التي تتسم بنياتها الاقتصادية والاجتماعية بسمات بلاد «ما قبل الرأسمالية»، لم يستطع إلى هذا التاريخ تحقيق ثورة فلاحية وصناعية، بل لم يتوصل إلى تحقيق حتى تحولات بسيطة في مجال التسيير، والعيش، والاكتساب، ناهيك عن مجال الإبداع والابتكار. ومهما يكن الأمر فإن حديثنا لن يهتم في المقام الأول بطبيعة وميادين الصراع والتعامل بين المغرب والدول الأروبية، بقدر ما سيحاول إماطة اللثام وإجلاء الغموض الذي ظل يكتنف جوانب عديدة من جهاز الجيش، خلال هذه الفترة العصيبة من تاريخنا الوطني.
وقد شجعنا على المضي قدما في هذا السبيل، البحث الذي كنا أنجزناه حول «النخبة المخزنية في مغرب القرن التاسع عشر»، ولذلك قد يكون البحث الحالي، بمثابة تدقيق، وتفصيل وتصحيح لما كنا توصلنا إليه آنذاك من نتائج بكيفية مختصرة، في شأن مؤسسة الجيش وشؤونها في سياق ترابطها مع باقي فئات وأجهزة التشكيلة الاجتماعية في مغرب القرن المذكور.
ومن ثمة تولدت لدينا قناعة قوية، بأن هذا الموضوع جدير بالبحث والتنقيب، ومن شأنه أن يمهد السبيل للتساؤل مثلا عن دور الجيش بصفة عامة، في عملية تحديث دواليب وأجهزة الدولة والبنيات الاجتماعية، وهل تسنى له فعلا أن يضطلع بهذا الدور الخطير، أم لم يحدث ذلك في الفترة المذكورة؟ وبتعبير آخر، هل كان من الممكن تسخير وتوظيف الجيش المغربي ورجاله، ليصبح أداة تطور المجتمع وبنياته، أم العكس هو الذي حصل؟ وفي هذا السياق نذكر هنا ما خلص إليه الباحث الأمريكي «رالستون (د.ب)» (David. B Ralston) في كتابه: «الاقتداء بالجيش الأروبي: إدخال التقنيات والتنظيمات العسكرية الأروبية إلى البلاد الغير أروبية، Importing the European Army the Introduction of : the European and Inditution Into the Extra – European Contries (منشورات جامعة شيكاكو، 1990)، حيث يقول إن أمر كل مجتمع رهين قبل كل شيء بتحديث وتطوير مؤسسته العسكرية. وقد اعتمد هذا الباحث في توصله إلى هذا الاستنتاج تجربة مسار خمس دول تنتمي إلى فضاءات حضارية متنوعة، وهي «روسيا، واليابان، والصين، ومصر، وتركيا». من جهة أخرى يتبين جليا على ضوء ما أنجز حتى الآن من دراسات وأبحاث جامعية، حول «الجيش المغربي» في الفترة موضوع دراستنا هذه، سواء تلكم التي أنجزت داخل المغرب أو خارجه، أن عددا من الجوانب والإشكاليات، لم يدرس بعد بما فيه الكفاية، توضيحا وتدقيقا. ولهذا، حاولنا من جهتنا أن نعمق البحث والتنقيب في بعض تلك الإشكالات والجوانب كمسألة إعداد الجند والعسكر، على امتداد الفترة الزمنية المختارة، والخسائر البشرية في ميادين القتال، والأصول الاجتماعية والجغرافية لأفراد الجيش، وعلاقة هذا الأخير بالدولة والمجتمع، كما حاولنا التدقيق في مسألة تموين الجيش، سواء تعلق الأمر بالعسكر النظامي، أو بأفراد الجيش، أو بحراك القبائل، وبالتالي حاولنا الكشف عن إسهامات القبائل في تموين «الحركات السلطانية»، والبعثات العسكرية المخزنية. وارتأينا كذلك إثبات خرائط ورسوم لعدد من محاور ومسارات بعض الحركات، في جهات مختلفة من البلاد علنا نوفق بمساهمتنا في بلورة أجوبة مقنعة لتفسير أسباب ودوافع المخزن في اختيار بعض المسالك والمحاور الطرقية دون غيرها.
ومعلوم كذلك أن الحوليات الإخبارية التقليدية لا تقدم لنا مادة تاريخية تشفي الغليل، سيما وأن أصحابها، كانوا لا يعيرون أدنى اهتمام للجيش وشؤونه، حتى إن فعلوا، لم تستأثر باهتمامهم إلا الوقائع الحربية التي تكون فيها الغلبة المخزنية، ويمرون مر الكرام أو يسكتون تماما على غيرها من الوقائع، ويرمون عناصر الجند والعسكر بأقبح النعوت، ويحملونهم دوما مسؤولية هزائم المحلات السلطانية، بسبب عدم انضباطهم، وقبيح سلوكهم وتصرفهم المشين في ميادين المعركة. وأما التفاصيل عن عدد المقاتلين، وأنواع سلاحهم وظروف عيشهم ومعاناتهم في الظعن والترحال، فلا ذكر لها إلا نادرا، اللهم إذا استثنينا مؤرخ مكناس، عبد الرحمن بن زيدان الذي يورد وثائق مخزنية ومعطيات كمية عن الجيش وفرقه، في ثنايا مؤلفيه:
* إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس.
* والعز والصولة في معالم نظم الدولة.
وأما الأبحاث والدراسات الجامعية الحديثة المنجزة حتى الآن في الموضوع، فإنها تكاد تعد على رؤوس الأصابع، سواء منها ما أنجز داخل المغرب أو خارجه، فقد انصبت في معظمها على جوانب «الإصلاح» في القرن التاسع عشر، أو اهتمت بظاهرة «الحركة» ودلالتها، وبالخصوص في عهد السلطان المولى الحســــــــــــــن (1290 – 1311 / 1873 – 1894).
وهذا ما ذهب إليه الباحث الأمريكي «و. ج. رولمان» (Wilfrid – John Rollman) في أطروحته: «النظام الجديد»
في مجتمع إسلامي ما قبل الاستعمار، الإصلاح العسكري في المغرب (1844-1904)، حيث عمل على وضع إشكالية الإصلاح بصفة عامة في سياقاتها التاريخية المتتالية، بدءا من القرن السادس عشر، في كل من ديار أروبا الغريبة من جهة، وفي تركيا وبلاد الكنانة على الخصوص بالنسبة للأقطار العربية والإسلامية المطلة على حوضي البحر المتوسط الشرقي والغربي من جهة أخرى لينصرف في الأخير إلى الحديث عن الإصلاح العسكري في المغرب دونما تعمق في الموضوع.
وتمثل الرسالة التي ناقشتها الأستاذة «ثريا برادة» سنة 1984، في رحاب كلية الآداب بالرباط في موضوع:
الجيش المغربي وتطوره في القرن التاسع عشر، مساهمة في دراسة «الإصلاحات العسكرية»، نموذجا آخر من الأبحاث الجامعية المنجزة حول مؤسسة الجيش، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. وقد ركزت الباحثة على جانب الإصلاح، واستخرجت مادة موضوعات بحثها من الوثائق المغربية ذات الصلة بالموضوع، وهو الأمر الذي أتاح لها مثلا فرصة التأكد ومناقشة لفظة إصلاح بصفة عامة للحديث عن الترتيبات والإجراءات التي ارتأى المخزن اتخاذها، في الفترة الزمنية موضوع بحثها بهدف تطوير وتحسين قدرة الجيش المغربي القتالية، إلى غير هذا من الموضوعات والقضايا، تمحورت بعضها مثلا حول الموروث السياسي، والثقافي، والاجتماعي عن الحقب السالفة، وعن واقع الجيش المغربي في مطلع القرن التاسع عشر. بقيت جوانب من الموضوع لا تقل أهمية عن مسألة الإصلاح، كالتركيبة الاجتماعية لمختلف تنظيمات الكيش والعسكر وما إلى ذلك وكذلك فعلت السيدة «سيمو» في رسالتها التي ناقشتها سنة 1987 بجامعة السربون – باريز الرابعة لنيل شهادة دكتوراه السلك الثالث في التاريخ المعاصر بعنوان: الإصلاح بالمغرب: الإصلاحات العسكرية ما بين 1844 و 1912، حيث اهتمت بالحركات الإصلاحية الدينية والفكرية التي عرفها العالم العربي والإسلامي في العصور الحديثة وحتى العقود الأولى من القرن التاسع عشر، لتتعرض بعد ذلك إلى الإصلاح العسكري بالمغرب خلال الفترة الزمنية المحددة، واعتمدت هذه الدراسة أكثر ما اعتمدت مصادر أوربية، مع عدد قليل نسبيا من الوثائق والمصادر المغربية. لذلك حاولنا في عملنا هذا أن نعمق البحث والتنقيب في موضوع الجيش المغربي في القرن التاسع عشر وأن نعيد النظر في مختلف جوانبه، علنا نوفق في تفادي الثغرات التي ظلت تشوب هذا الموضوع معتمدين أساسا على الوثائق المخزنية.
لقد حرصنا في المنهج الذي اتبعناه في البحث على قراءة كل ما طالت إليه اليد من وثائق، ومصادر، ومراجع، عربية كانت أو أجنبية، مما له صلة بالموضوع، أو تلك التي توخينا من استغلالها مدنا بعناصر قمينة بتكميل أو توضيح أو تصحيح ما استخرجناه منها. ثم بعد ذلك عملنا على استخراج وترتيب المعطيات والمعلومات التي رأيناها جديرة بالاهتمام، ومفيدة بالنسبة لبحثنا. وهذا يعني أننا اعتمدنا منهجا استقرائيا، وصفيا وتحليليا في نفس الوقت، في معالجتنا للموضوع. وكلما سمح الحصيد بذلك، خلصنا إلى تقديم استنتاجات نرجو أن نكون قد وفقنا في استنباطها وصياغتها:
على أننا مقتنعون كل الاقتناع وواعون كامل الوعي بأن بعض هذه الخلاصات لن يكون إلا مؤقتا، في انتظار تزكيتها أو دحضها وتفنيدها من قبل أبحاث ودراسات مقبلة تعنى بمادة موضوعنا.
ومهما يكن الأمر، فإن مستلزمات ومتطلبات البحث العلمي الرصين تفرض علينا أن لا نتعسف في نظرتنا للأحداث والوقائع، ونبخس الأطراف المساهمة في صنعها وبلورتها حقها ونصيبها. فغايتنا هي الاهتداء إلى إبراز واقع الجيش المغربي في القرن التاسع عشر، ورسم معالم تطوره، وتوضيح مكانته ودوره في الدولة والمجتمع، وتبيان ظروف عيش وعمل أفراده، وغير ذلك من الإشكاليات والقضايا، مما سنجتهد لنلتمسه أثناء تناولنا للموضوع.
ونحن إذ نسلك هذا المنهج عن قصد، فإننا واعون ومدركون أهمية وفاعلية النظريات والأدوات التي يضعها ويصوغها الباحث في «علم الاجتماع»، أو المشتغل في حقل «الأنطروبولوجيا»، أو «الاتنوغرافيا»، ويقدمها للمهتم بالتاريخ الاجتماعي على الخصوص والذي يستعين بها بدوره للحديث عن وقائع وأحداث اندرست معالمها، وسكنت أصواتها منذ مدة.
وأما تصميم البحث، فقد اقترحنا له ثلاثة أبواب كبرى، وزعت داخلها سبعة فصول، ثلاثة منها في الباب الأول، والأربعة الباقية وزعت بالتساوي على البابين الثاني والثالث.
وخصص الباب الأول، وهو تحت عنوان: «الجيش، المؤسسة والتنظيم» للحديث في فصل أول عن: «السياق الداخلي والخارجي»، وفي فصل ثان عن: «تركيب الجيش وتنظيمه»، وفي فصل ثالث عن: «التسيير والتأطير». واندرج الباب الثاني من البحث تحت عنوان: «وظائف الجيش ومنجزاته» استعرضنا في الفصل الأول منه مسألة: «الأعمال والخدمات»، وفي الفصل الثاني، تعرضنا لقضية: «الحركة، ضوابطها»، وأفردنا الباب الثالث، وهو تحت عنوان: «تحديث الجيش، الوسائل والنتائج»، لمعالجة مسألة: «الحاجة إلى التحديث، والعون الأجنبي ومشاكله»، في الفصل الأول منه، وجانب «مجهودات الدولة» في الفصل الثاني والأخير.
هذا علاوة على مقدمة ألمحنا فيها إلى «دوافع اختيار الموضوع»، «والمصادر والمراجع»، و«المنهج المتبع في معالجة الموضوع» و«تصميم البحث»، وعلى خاتمة ذيلنا بها بحثنا هذا ضمناها أهم الخلاصات والنتائج التي توصلنا إليها، آملين أن نكون قد وفقنا في محاولتنا هذه الإسهام في التعريف بمؤسسة الجيش المغربي في القرن التاسع عشر، وفتح آفاق جديدة للبحث والتنقيب في ورش الدراسات العسكرية والحربية. ولابد من الإشارة هنا إلى أن عناصر، ومحتويات هذا التصميم الذي تبنيناه قد فرضت نفسها علينا، إن جاز هذا التعبير. ومرد ذلك طبعا إلى حصيلة ما جنيناه وقطفناه من معلومات ومعطيات من الوثائق والمصادر المغربية من جهة، ومن الأرشيف الأجنبي من جهة ثانية. على أن القراءات العديدة والمتنوعة التي قمنا بها لمختلف المصادر والمراجع، عربية كانت أو أجنبية، ساعدتنا على وضع هذا المخطط، إطارا عاما للبحث. وهذا يعني أننا تفادينا الانطلاق من تصور مسبق وخلفيات وأفكار محبوكة لوضع تصور عام للموضوع، يطعم ويبلور مما يتجمع لدينا من معلومات حوله، بل كان دائما الانطلاق من الوثائق، للاستجلاء والكشف عن واقع النسيج العسكري المغربي، وتفاعله وارتباطه بالفئات الاجتماعية الأخرى، متسائلين مثلا إلى أي حد استجابت مؤسسة الجيش، وقامت بما كان ينتظره منها المخزن من أعمال ووظائف.
لقد حاولنا، من خلال دراستنا هذه لموضوع الجيش المغربي في القرن التاسع عشر، استغلال عدد وافر من الوثائق المخزنية. وقد سمح لنا استنطاقها بالتركيز على بعض الجوانب والقضايا دون غيرها، آملين أن تساعد على فهم وتلمس أفضلين لخصوصيات مؤسسة الجيش ومكانتها في الجهاز المخزني وقتئذ.
وهكذا، عملنا على استجلاء بعض ملامح الدولة المغربية، بغية وضع المؤسسة المذكورة في إطارها السياسي والاجتماعي والتنظيمي على ضوء المستجدات التي عرفها على المستوى الداخلي من جهة، والتطورات التي كانت تميز تعامله مع الدول الأروبية من جهة أخرى. وقد تساءلنا في هذا الإطار عن خصائص بنية الجيش المغربي البشرية، وعن أساليب وأوجه تكوين وتدريب عناصره على تقنيات وطرق الحرب والقتال الحديثة، وإلى أي حد كان هؤلاء يؤدون مأموريتهم، ويساهمون بالتالي في شد أزر الدولة ومساعدتها على تدبير وتسيير شؤون البلاد، والدفاع عن حوزتها كلما دعت الضرورة إلى ذلك، مبرزين في نفس الآن الدور الأساسي «لقبائل الكَيش» و«عبيد البخاري»، باعتبارهما قوتين منظمتين وهامتين، ولا سيما في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ كان بإمكان المخزن التعويل عليهما في كل وقت وحين. وحاولنا أيضا تتبع سياسة المخزن في هذا المجال، وإعطاء فكرة عن أعداد هذين التنظيمين وتطورهما على امتداد القرن التاسع عشر، كما قمنا بنفس العملية بالنسبة لحراك القبائل وعساكرها، وجند النظام.
ومن الخلاصات التي سمح لنا استقراء الوثائق بالتوصل إليها، أن إعداد تنظيم عبيد البخاري وقبائل الجيش، كانت تتراجع باستمرار، على امتداد القرن التاسع عشر، لأسباب سياسية ومالية وتنظيمية، ولاسيما بعد الشروع في تأسيس النواة الأولى لعسكر النظام، غداة وقعة إيسلي سنة 1844، وإسناد مهام تكوين عناصرها، أول الأمر إلى ثلة من الضباط والعسكريين المغاربيين والمشارقة، ثم في مرحلة لاحقة إلى مكونين وعسكريين إنجليزيين وفرنسيين على الخصوص. وقد تبين لنا هذا كله من الأرقام والبيانات التي أثبتناها في جداول مفصلة، أشفعناها بأخرى عن الرواتب والأجور.
وفيما يتعلق بحراك القبائل الذين كان يجندهم المخزن، ويزج بهم في ميادين القتال، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، فقد أدلينا في شأنهم أيضا بأرقام مفصلة وبيانات متنوعة عن أعدادهم، وانتسابهم القبلي، وطريقة ومقاييس اختيارهم وتعيينهم، وهو الأمر الذي حملنا على الاعتقاد بأننا نساهم في التعريف بظاهرة الحركة وأدق جزئياتها وتفاصيلها البشرية والتنظيمية والمادية.
وأمكننا أيضا استجلاء التحول الهام الذي أخذ يطرأ على تركيبة الجيش، ولاسيما غداة «حرب تطوان»، حيث أضحت أعداد الرماة والطبجين أي المدفعيين في إزدياد مستمر، في حين أخذت أعداد الخيالة في التراجع. إلا أن هذه الظاهرة لا تعني البتة أن مفهوم وتصور المسؤولين العسكريين المغاربة، وفي مقدمتهم السلطان طبعا، للعملية الحربية برمتها قد تغير عما كان عليه الأمر أيام العرب ومن شابههم من الأمم والشعوب، أي أن طريقة المغاربة الحربية ظلت تعتمد على تاكتيك الكر والفر، وبالتالي ترجيح كفة سلاح الفروسية على باقي التنظيمات العسكرية الأخرى.
وتعرضنا أيضا في مرحلة موالية إلى مسألة السلاح الناري والذخيرة اللذين كان المخزن يزود بها مقاتليه من الجيش والعسكر، فتبين لنا من مصادرنا أن معظم أنواع البنادق والمهاريس، والمدافع على الخصوص، كان يرجع تاريخ صنعها دوما إلى عدة سنين خلت، وتوجد في حالة سيئة ورديئة بسبب قلة العناية والاهتمام، وانعدام أعمال الصيانة، وهذا ما كان يجعلها عديمة الفائدة، إذا قورنت بنظيرتها التي كانت بيد عناصر الجيوش الأروبية. وسواء تعلق الأمر بالبنادق والذخيرة التي كان يتم صنعها في معامل الدولة هنا وهناك، وبالخصوص في معامل «تطوان»، و«العرائش»، و«فاس»، أو بالتي كان يتم صنعها في إطار عائلي وعشيري، فإن وسائل الإنتاج المستعملة، والأساليب المعتمدة، كانت بدائية وتقليدية لا ترقى البتة إلى المقارنة بما كان عليه الأمر في مصانع السلاح الحديثة بأوربا. وأما العتاد الحربي المستورد من الخارج، أي من إنكلترا، وبلجيكا، وإيطاليا، وفرنسا على الخصوص، فكان لا يخرج عن أحد أمرين، فإما أن تكون معظم قطعه عائبة وغير متقنة الصنع، وإما أن تكون من النوع القديم الذي أصبح في وقت تفويته إلى المغرب متجاوزا تقنيا وعسكريا، وثم الاستغناء عنه في التنظيمات العسكرية الأوربية. وهكذا تنضاف سلبيات وعوائق العتاد الحربي العائب والمتقادم إلى قلة استعداد المحاربين المغاربة، وجهلهم بأساليب ومناهج القتال الحديثة. وانصب على أطر الجيش، فعملنا على التعريف بعدد وافر منهم، وتبين لنا أنهم كانوا لا يتوفرون على أدنى رصيد من التكوين العسكري والحربي، وبالتالي جهلهم التام بفنون ومناهج الحرب العصرية، وبما كان يجري حولهم من أحداث ووقائع. لقد كانوا صورة حية لما كانت تمثله هذه المرحلة، موضوع دراستنا، من تطور اجتماعي، وثقافي، وتقني بالنسبة للمجتمع المغربي وقتئذ. على أن هذا لا يعني بالطبع التنقيص من شجاعتهم وإقدامهم، أو إنكار ما كان لبعضهم من دراية ومهارة في ميادين القتال، وفي تسيير وقيادة الرجال، وإنما قصدنا هنا الإلحاح على أن هؤلاء القواد لا معرفة لهم بمناهج وطرق الحرب العصرية، كما كان يتلقاها نظراؤهم في المدارس والمعاهد الحربية الأوربية، إذا كانوا يحاربون، ويذهبون إلى ميادين القتال، وكل ما يتوفرون عليه من خبرة ومعرفة بالحرب وشؤونها، يتلخص فيما قد اكتسبوه انطلاقا من تجاربهم في المعارك التي كانت تخوضها قبائلهم.
وأما ما كان يقدمه المخزن من أجور ومؤن إلى هؤلاء القواد ورجالهم، كَيشا كانوا أم عسكرا، فإنها كانت جد زهيدة لا تفي بالغرض، ولا تكفي البتة لسد حاجيات الفرد الضرورية، فما بالك إذا كان عليه إعالة أسرة من زوج وثلاثة إلى أربعة أبناء على الأقل، ومن ثمة كان اضطرار معظمهم إلى مزاولة عمل آخر، في أوقات الفراغ من الخدمة في الجندية، كأجراء أو حرفيين أو باعة متجولين، سعيا إلى اكتساب بعض الأواقي، عساها أن تساعد على مواجهة تكاليف العيش وشظفه.
على أن من كان بيده مال كثير، ولا يتأتى ذلك طبعا إلا لثلة من الكبراء، كانوا يتحولون إلى تجار مرابين حقيقيين، يستثمرون أموالهم في عمليات تجارية كانت تتخذ من المحلة نفسها سوقا كبيرا ومتنقلا، فيحصل عموم الجند على بعض المواد بالنسيئة ريثما يتوصلون برواتبهم ومؤنهم، متخذين بذلك من المجال الجغرافي المتنوع والفسيح الذي كانت تتحرك فيه المحلة السلطانية أسواق مربحة.
ثم تعرضنا بعد ذلك إلى لباس الجند، فلاحظنا شيئا من التشابه بينه وبين ما كان يرتديه باقي سكان البلاد، ولا سيما في النصف الأول من القرن التاسع عشر. بيد أنه واعتبارا من بداية عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن، صار المخزن يقتبس قطعا من الزي العسكري التركي والأوربي، مدمجا إياها في كسوة عناصر جيش النظام على الخصوص، في حين ظل معظم أفراد الجيش والعسكر، وحراك القبائل طبعا، يرتدون اللباس التقليدي المغربي الفضفاض الذي كان يعيق حرية الحركة دون شك، ولربما يليق ويواتي هواة ألعاب الفروسية أكثر مما كان يصلح ويناسب من كانت خدمتهم بالأساس، تتخلص في الفر والكر، وفي تسلق الجبال واقتحام الأوعار، وفي عبور الأودية والأنهار، وفي حمل الأثقال وتمهيد السبل والمسالك، في الأيام القائضة، كما في الليالي الظلماء العاصفة. واغتناما للفرصة أيضا للحديث عن أنواع الثياب والمنسوجات التي كان يستعملها في إكساء جنوده وقواده، وعلى يد من كانت تنجز هذه العملية، وما هي أهم المراكز الحضرية التي يتم بها صنع البذل، والنعال، والعمائم؟ ويمكن إسقاط نفس الملاحظة على قطاع السكن وإسكان أفراد الجيش، إذا لم يكن يوجد بالمغرب وقتئذ ثكنات أو محلات جماعية، مبنية مساكنها من الحجارة والطين، تأوي هؤلاء الناس، في حالة الإقامة أو الترحال، فالوسيلة الوحيدة المستعملة لإيقائهم من حر الشمس، و برودة الطقس وتهاطل الأمطار هي أنواع من الأخبية والخيام المختلفة الأشكال والأحجام التي كانت تصنع في كبريات المراسي والحواضر. على أن المخزن كان يعمل على توفير سكن قار إلى ثلة من كبار قواد ورؤساء الجيش، إما عن طريق التمليك أو الإيجاز، كلما حطت المحلة الرحال بإحدى العواصم الثلاث، فاس، ومكناس، ومراكش على الخصوص. وقد أمكننا، في هذا الصدد، تقديم معلومات ومواصفات دقيقة عن سعة وحجم نماذج من الدور التي كان يخصصها المخزن لمساعديه العسكريين، أو ينعم عليهم بها. ثم عززنا ذلك ببيانات ومعطيات كمية حول أثمنة كراء أنواع شتى من الدور والمباني في جهات مختلفة من البلاد، وفي تواريخ تغطي تقريبا القرن التاسع عشر بأكمله، بهدف إعطاء فكرة عما كان يمثله الإنفاق على سكنى الفرد وأسرته من عبء على القدرة الشرائية لمغاربة الفترة المذكورة، وفي مقدمتهم قواد ورؤساء الجيش. وانسجاما مع سياسته في التعامل مع عناصر الجيش والعسكر، ومن أجل ضمان ولائهم ووفائهم للدولة، وتمييزهم عن عموم السكان دأب المخزن على تمتيعهم بعدد من الامتيازات والإنعامات، كإقطاع كبرائهم مثل أراضي فلاحية هنا وهناك، مع تخويلهم حق الانتفاع من أنصبة من مياه السقي، وإعفاء الجميع من أداء الضرائب غير الشرعية، ومن الكلف والوظائف، ومنحهم صلات وإنعامات في مناسبات معينة كالأعياد مثلا.
وتعرضنا أيضا إلى مسألة تطبيب وعلاج مرضى وجرحى أفراد الجيش، وخلصنا إلى القول بأنه لا شيء يذكر في هذا المجال، وبأن ظروف عيشهم وعملهم كانت تساعد كثيرا على تفشي مختلف الأمراض والأعراض في صفوفهم أكثر مما يحدث في صفوف الفئات الاجتماعية الأخرى، وبالخصوص حين كانت تجتاح البلاد القحوط والمجاعات، وما كان يعقبها من ويلات ومصائب الأوبئة والطواعين، «كالكوليرا» و«التيفوئيد» مثلا.
وكان ينضاف إلى الآثار السلبية والسيئة للجوائح الطبيعية والأمراض المعدية، ضروب وأصناف التعسفات والمضايقات والابتزازات التي كانت تستهدفهم على يد قوادهم ورؤسائهم، وكذلك على يد الولاة والحكام الآخرين.
واستأثر باهتمامنا أيضا موضوع سلوك أفراد الجيش، قوادا وأنفارا، سواء تعلق الأمر بما كان يتخلل علاقاتهم اليومية وظروف عملهم من مشاكل وصراعات، في معسكراتهم ومخيماتهم، ساعة التوقف والاستقرار، أو وقت الطعن والترحال، أو بما كان يصدر عن بعضهم من أقوال في تعاملهم مع غيرهم من مكونات المجتمع المدني، وبالخصوص سكان البوادي، وهو الأمر الذي أتاح لنا فرصة استبيان وتلمس مستواهم الثقافي والفكري، وكذلك بؤس أوضاعهم المادية والمعيشية، والتي تفسر جوانب عديدة من ممارساتهم وتصرفاتهم، الأمر الذي كان يدفع ببعضهم، بين الفينة والأخرى، إلى الهروب من أماكن خدمتهم، أو من الحركة ومعهم، في غالب الأوقات، اللوازم الحربية التي يكون قد أمدهم بها المخزن أو قبائلهم.
وأولينا الاهتمام أيضا لظاهرة الانتفاضات والتمردات في مغرب القرن التاسع عشر، متسائلين عن الأسباب والدوافع المختلفة التي ساهمت في إيقاد نيرانها، وتأجيج لهيبها، ونشر فتيلها، حيث ركزنا على انتفاض قبيلة الرحامنة التي اهتز لها حوز مدينة مراكش بأكمله، في بداية عهد السلطان المولى عبد العزيز، وتوسعنا بعض الشيء في الإحاطة بجميع جوانبها وخلفياتها، بهدف إعطاء فكرة عن الدور الهام الذي كان يضطلع به عناصر الجيش في استتباب الأمن وقمع حركات العصيان ضد المخزن، دون إغفال أن تردي الأوضاع المادية والاجتماعية لفئات عريضة من المجتمع المغربي، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الخصوص، وتدني مستوى عيشها بسبب تمكن اقتصاد السوق وغزو المنتوجات الأوروبية للأسواق المغربية، ودسائس الدول الاستعمارية، كلها عوامل ساهمت في تأجيج غضب السكان وجعلهم أكثر تقبلا وتحمسا لدعاية وأكاذيب مشعوذين ومغامرين من أمثال «الجيلالي بن عبد السلام الزرهوني»، أو «أحمد الريسوني».
وعندما تناولنا لمسألة خطط المخزن الدفاعية المتمثلة أساسا في سلسلة الأبراج والحصون التي كانت تتخلل الواجهة الأطلسية من البلاد على الخصوص، وفي القصبات والإدالات المنبتة في ربوعها، ناقشنا مصطلح «الجهاد» الذي ظل حاضرا باستمرار في الكتابات المخزنية وغيرها على امتداد الفترة موضوع بحثنا هذا، فتبين لنا أن لفظة «جهاد» قد استعملت في معنى الدفاع عن حوزة الوطن، وليس في معنى حمل الآخر عن طريق الترغيب أو الترهيب، على الإذعان إلى الكلمة الحق واتباع سبيل الهداية والرشاد، وهو الأمر الذي كان يقضي الدخول معه في مجاهدة ومكابدة، وفي حرب ومواجهة خارج الوطن بعيدا عن الأهل والولد.
وأما فيما يخص القصبات والإداءلات والقلاع المنتشرة في الجهات المختلفة من البلاد، في الجبال والوديان، وكذلك على امتداد المسالك الكبرى التي كانت تمثل الممر الطبيعي والضروري للقوافل التجارية، وللسابلة، ولكتائب وتجريدات الجيش، فقد عملنا على التعريف بخصوصياتها، وبأعداد رجالها وما كانوا يتقاضونه من مؤن ورواتب، وكذا بعلاقاتهم بالقبائل المجاورة لهم، ناهيك عما كان ينتظر منهم القيام به من طرف المخزن، والمتمثل قبل كل شيء في الحرص والسهر على استتباب الأمن، وإجراء الأحكام والأوامر المخزنية.
وحرصنا أيضا على التوسع في معالجة ظاهرة «الحركة» في مغرب القرن التاسع عشر، والتركيز على جوانب وإشكالات لم يسبق أن تعرض إليها من الباحثين من اهتم بمؤسسة الجيش المغربي في الفترة الزمنية موضوع دراستنا هذه. وهكذا عملنا على إبراز واستجلاء خصوصياتها وخلفياتها السياسية، والاجتماعية، والمادية، كما حاولنا رصد التطور الذي طرأ عليها على امتداد الفترة المذكورة، وذلك من خلال موضوعات معينة ودقيقة، كعبء الحركة مثلا على القبائل، أو فريضتي تموين الحراك، أو حمل أثقال المخزن، أو امتناع بعض الطوائف والقبائل عن المشاركة في حملة السلطان العسكرية، سواء تعلق الأمر بعهد السلطان المولى الحسن الذي اقترن اسمه بالحركة في ذاكرة المغاربة حتى مطلع القرن العشرين، أو بفترتي حكم والده السلطان سيدي محمد، وجده السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام.
هذه إذن أهم النقط والجوانب التي تعرضنا إليها في البابين الأولين من بحثنا، وهمت قضايا ومواضيع ذات الصلة بتنظيمات الجيش وفرقه، وعدد رجاله، ورواتبهم، وسلوكهم، ولباسهم، وسلاحهم، إلى غير ذلك من طرق وأساليب التنظيم والتسيير، كما انصب اهتمامنا على إبراز الخدمات والمهام التي كانت تناط بهم، وفي مقدمتها الإسها في استتباب الأمن، وقمع الانتفاضات والتمردات، وتبليغ وتنفيذ الأوامر المخزنية، ناهيك عن ظاهرة «الحركة» وأهميتها في تدبير شؤون البلاد.
وسواء تعلق الأمر بالوسائل المادية والتقنية التي كان يسخرها الجنود في أداء مهام وإنجاز أعمالهم، أو المؤهلات الثقافية والعسكرية لهؤلاء الجنود أنفسهم، فإننا ندرك أننا أمام جيش بلد تقليدي ذي بنيات اقتصادية، واجتماعية، وذهنية عتيقة. وبديهي أن تكون مردوديته وخدماته، بالمقارنة مع الجيوش الأوربية الحديثة جد محدودة، إذ أمكننا الوقوف على أمثلة عديدة في مصادرنا لنقائصه، وعيوبه ومواطن الضعف والخلل في طرق تدبير أموره وقتال رجاله.
هذا، وقد خصصنا الباب الثالث والأخير من عملنا هذا للحديث عن مجهودات سلاطين الفترة، وفي مقدمتهم السلطان المولى الحسن، والرامية إلى تحديث قطاع الجيش وتطوير أساليب عمل رجاله، حيث تعرضنا، في فقرة أولى، إلى إشكالية العون الأجنبي، وما هي الجهة الخارجية الممكن الركون إليها والتعويل عليها لإنجاح مشروع المخزن هذا، إذ كان يتعين إما الاقتداء بتجربة بعض الدول المشرقية في هذا المجال، أي تركيا ومصر، أو الاستعانة بخبرة العسكريين الأوربيين ومهارتهم الحربية.
وقبل هذا وذاك، والتساؤل عن الدوافع والأسباب السياسية والثقافية التي حملت كلا من العاهلين المولى عبد الرحمن بن هشام، وابنه وخلفه سيدي محمد، على نبذ كل تقارب وتعاون وثيق مع الدول الأوربية التي ما فتئت تتضح وتتأكد مخططاتها الاستعمارية ونواياها الحقيقية في البلاد، منذ واقعة «إيسلي» سنة 1844 وحرب «تطوان» سنة 1859- 1860 على الخصوص، أشرنا إلى الأسباب المنهجية والموضوعية التي جعلتنا نتبنى ونفضل استعمال لفظة «تحديث» عوض «إصلاح»، للحديث عن مجموعة الترتيبات والتدابير التقنية والعملية التي اتخذها المخزن، بهدف تحسين القدرة القتالية للجنود المغاربة، وظروف عيشهم وعملهم، موفرا لنفسه أداة فاعلة لتعزيز مركزه، وبسط نفوذه وكلمته وقمع كل انتفاضة أو حركة تمردية من شأنها أن تهدد سلطته وسلطة مختلف ممثليه في كافة أرجاء البلاد. إن لفظة إصلاح، في نظرنا، تختزل شحنة من المعاني والدلالات النفسية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية، لا نظن أن هذه المقدمات والمتطلبات، أو على الأقل البعض منها، كان حاضرا في أذهان النخبة الحاكمة والمثقفة أو على مستوى فئات المجتمع المغربي الأخرى.
ثم تعرضنا، بعد ذلك، إلى المحاولات والمساعي التي ظل المغرب يبذلها، على امتداد القرن التاسع عشر، بهدف إنعاش وتوطيد صلاته وعلاقاته مع إخوانه في الملة والدين، في كل من مصر وتركيا. إلا أن ظروف وأوضاع الجانبين، السياسية، والاجتماعية والمادية، والعوائق الطبيعية والتقنية، ناهيك عن دسائس، ومؤامرات، وضغوط بل تحرشات وتهديدات الدول الاستعمارية، قد حالت دون تحقيق هذه التوجهات والمشاريع التي غالبا ما كانت تقبر في مهدها. وقد تكللت فعلا مساعي كل من انكلترا وفرنسا بالنجاح، بصفتهما القوتين العظميين الأكثر اهتماما بالمغرب وشؤونه، والأشد حرصا على نسف كيانه السياسي، ومقوماته الفكرية والثقافية، وتخريب اقتصاده، تمهيدا لبسط يدهما عليه، وذلك بقبول السلطان المولى الحسن رسميا استقبال مكونين عسكريين من البلدين المذكورين. وبذلك، تكون كل من انكلترا وفرنسا قد تمكنتا من ضرب عصفورين بحجر واحد، إذ نجحتا في إقصاء الخبراء والضباط العرب والمسلمين من البلاد من جهة، وإقحام مخبرين ومراقبين في الأوساط المخزنية، بما في ذلك الحاشية المقربة للسلطان من جهة أخرى.
وأيا كان الأمر، فعلاوة على الاستعانة بالعسكريين الأوربيين في مجال تكوين وتدريب فرق من الجيش وعسكر النظام على طرق الحرب الحديثة، تعرضنا إلى البعثات الطلابية لعدد من الدول الأوربية للتعلم والتكوين في اختصاصات عسكرية وحربية، ليس فحسب على عهد السلطان المولى الحسن كما هو معلوم ومشهور، بل أيضا أيام جده المولى عبد الرحمن بن هشام ووالده سيدي محمد، على ما تضمنته وثائق مخزنية دفينة وغيرها حول هذا الجانب. وقد تساءلنا بالمناسبة، عن المقاييس والاعتبارات التي كان يرتكز عليها المخزن في اختياره لهؤلاء الطلاب الموفدين إلى الخارج، وغيرهم من أهل الصنائع والحرف، وهل كانت هناك شروط ومؤهلات وصفات معينة لكسب ورقة العضوية في الأفواج التي كانت تتوجه إلى أوربا، كالانتماء مثلا إلى فئة النخبة الحاكمة مثلا، أو الانتساب إلى قبيلة من القبائل أو جهة من الجهات، والحق أنه لا مجال البتة للاعتبارات العائلية والشخصية أو الفئوية، أو الجهوية والقبلية في اختيار هؤلاء الشبان المغاربة، إذ المهم بالنسبة للسلطان هو أن يكونوا صغيري السن ومن «أهل الذكاء، والفطنة والصحة، والجسم ...».
بيد أنه في نفس الآن، يبدو أن أهمية خاصة كانت تعطى لدرجة إلمامهم. بمبادئ القراءة والكتابة، إذا كانت تكون مقياسا من مقاييس اختيارهم، وهو الأمر الذي قد يساعد، ولاشك، على استشفاف أصولهم الاجتماعية. وكان طبيعيا أيضا، أن نتساءل عما يكون المغرب قد جناه من وراء إيفاده لمئات من أبنائه للتكوين والتعلم، واستكمال الخبرة في مدارس عسكرية ومؤسسات تقنية أروبية في إنكلترا، وإيطاليا، وبلجيكا، وألمانيا، وفرنسا، وإسبانيا، وحتى الولايات المتحدة نفسها، علما بأن ذلك قد تطلب رصد مبالغ مالية هامة، طيلة الثلاثين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر على الأقل، ناهيك عما أنفقه المخزن من أموال طائلة على تحصين وتسليح عدد من المواقع الساحلية على واجهة البلاد الأطلسية من جهة، وعلى تأسيس صناعة حربية حديثة في كل من فاس ومراكش من جهة ثانية، وعلى اقتناء العتاد الحربي والذخيرة من البلاد الأوربية من جهة ثالثة.
بيد أن كل هذه المجهودات والمحاولات قد باءت بالفشل، وذلك لأسباب مرتبطة بأوضاع المغرب الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية من جهة، وبموقف الدول الاستعمارية الأوربية السلبي من حركة التحديث والتجديد التي كانت قد دشنت غداة وقعة إيسلي سنة 1844 من جهة ثانية. وهذا ما حذا بنا إلى القول إن التدخل الأوربي وباستمرار في الشؤون المغربية، وفي صيغه وأشكاله المختلفة، ليعد بحق من المثبطات التي عاقت كل محاولة لتجديد وتطوير هياكل الدولة، اقتصادية وثقافية كانت، أم عسكرية، الأمر الذي يجعلنا نلمس إحدى الإشكالات المستعصية الحل في مغرب القرن التاسع عشر، وهي أن كل مجهود وتفكير في اتخاذ ترتيبات وتدابير للتحديث، لابد وأن يتحقق بالاعتماد على العون الأوربي، وهذا ما كان لا يطمئن إليه المغاربة قاطبة، لأسباب نفسية، وتاريخية وذهنية.
ومع هذا كله، فإننا لا نشك في أن بحثنا هذا، ربما اعتراه بعض النقص في الوصف أو التحليل، أو تجاوزت بعض فقراته حدود الاستنتاج والخلاصات، أو أغفلت أخرى.
وقد يبدو للقارئ في هذا البحث بعض المعلومات الناقصة، فهذه أمور لا يخلو منها كل مجهود واجتهاد في ميدان البحث. ولهذا والحالة هذه، لا يسعنا إلا التماس العذر لما قد يحدث من كل هذا، آملين أن تعمل أبحاث مقبلة على تقويم وتصحيح ما قد يكون في هذا البحث من خلل ونقص والله الموفق.الأمن القومي المغربي